فصلٌ: فيما يجلب الرزق وما يمنع الرزق وما يزيد في العمر وما ينقُص
ثمّ لا بدّ لطالب العلم من القوت، ومعرفة ما يزيد فيه، وما يزيد في العمر، والصحة، ليتفرّغَ لطلب العلم، وفي كلّ ذلك صنّفوا كتابا، فأوردْتُ بعضها هنا على سبيل الاختصار.
44
بن حكيم بعض إخوانه في المنام، فقال: أيُّ شيءٍ وجدته أنفعَ؟ قال قراءةالقرآن نظرا.
ويقول عند رفع الكتاب: بسم الله، )سبحان الله( والحمد الله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوّةَ إلاّ بالله العليِّ العظيم، )العزيزِ العليمِ(، عدد كلِّ حرفٍ كُتبَ ويُكتَبُ أبدَ الآبدينَ، ودهر الداهرين.
ويقول بعد كلّ مكتوبةٍ: آمنت بالله الواحد الأحدِ، الحقِّ، المبينِ، وحده لا شريك له، وكفرتُ بما سواه.
ويكثر الصلاة على النبي ، فإنَّه رحمةٌ للعالمين.
قيل:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوء حفظي فأوصاني إلى ترك المعاصيفإنّ العلم فضل مِنْ إلهي وفضل الله لا يعطى لعاصي
والسواك، وشُرْبُ العسَلِ، وأكلُ الكندرة مع السكَّر، وأكلُ إحدى وعشرين زبيبةً حمراءَ كلّ يومٍ على الريقِ يُوِرِثُ الحفظَ، ويشفي مِنْ كثيرٍ مِنَ الأمراضِ والأسقامِ.
وكلّ ما يقلّلُ البلغمَ والرطوبات يزيدُ في الحفظ، وكلّ ما يزيد في البلغم يورث النسيان.
وأمّا ما يُورث النسيانَ: المعاصي، وكثرةُ الذنوبِ، والهمومُ، والأحزان في أُمور الدنيا، وكثرة الأشغالِ والعلائقِ. وقد ذكرنا أنّه لا ينبغي للعاقل أنْ يهتمّ لأمر الدنيا، لأنّه يضرّ ولا ينفعُ. وهمومُ الدنيا لا تخلو عن الظلمةِ في القلب، وهموم الآخرةِ لا تخلو عن النور في القلب، ويظهر أثره في الصلاة .
وهمُّ الدنيا يمنعه عن الخير، وهمّ الآخرة يحمله عليه، والاشتغال بالصلاة
43
وأُنشدت للشيخ )الإمام( الزاهد، الحاج نجم الدين عمرَ بن محمدالنَّسفي رحمهم الله:
كنْ للأوامر والنواهي حافظا وعلى الصلاة مواظبا ومحافظاواطلبْ علوم الشرع واجهدْ واستعنْ بالطيّباتِ تصِرْ فقيها حافظاواسألْ إلهك حِفْظَ حِفْظِكَ راغبا في فضله فالله خيرٌ حافظاوقال رحمه الله:
أطيعوا وجدّوا ولا تكسلوا وأنتم إلى ربكم ترجعون ولا تهجعوا فخيار الورى قليلا منَ الليل ما يهجعون
وينبغي أن يستصحب دفتراً على كل حال ليطالعه، و قيل: من لم يكن له دفتر في كمه لم يثبت الحكمة في قلبه.
وينبغي أن يكون في الدفتر بياض ويستصحب المحبرة ليكتب ما يسمع.
و قد ذكرنا حديث هلال بن يسار رضي الله عنه.
فصل فيما يورث الحفظ وما يورث النسيان
وأقوى أسباب الحفظ: الجدُّ والمواظبة، وتقليل الغذاء، وصلاة الليل ،وقراءة القرآن من أسباب الحفظ.
قيل: )ليس شيءٌ أزيد للحفظ من قراءة القرآن نظرا(، والقراءةُ نظرا أفضلُ لقوله عليه السلام: أفضل أعمالِ أُمّتي قراءة القرآنِ نظرا. ورأى شدّاد
42
أحضره شريكي. فقال أبوه: لو كنت تحتاط وتتورع لم يجترئ شريككبذلك.
وهكذا كانوا يتورعون فلذلك وُفِّقُوا للعلم والنشر حتى بقي اسمهم إلى يوم القيامة.
ووصَّى فقيه من زهاد الفقهاء طالبَ العلم: عليك أن تتحرز عن الغيبة وعن مجالسة المكثار. وقال: إن من يكثر الكلام يسرق عمرك ويضيع أوقاتك. ومن الورع أن يجتنب من أهل الفساد والمعاصي والتعطيل فإن المجاورة مؤثرة لا محالة وأن يجلس مستقبل القبلة )وأن يكون( مُسْتَنًّا بسنّة النبي عليه السلام، ويغتنم دعوة أهل الخير، ويحترز عن دعوة المظلوم.
وحكي أن رجلين خرجا في طلب العلم للغربة، وكانا شريكين فرجعا بعد سنين إلى بلدهما، وقد فقه أحدهما، ولم يفقه الآخر، فتأمل فقهاء البلدة وسألوا عن حالهما، وتكرارهما، وجلوسهما، فأخبروا أن جلوس الذي تفقّه في حال التّكرار كان يجلس مستقبل القبلة والمصر، والآخر كان يجلس مستدبر القبلة ووجوهه إلى غير المصر. فاتفق العلماء والفقهاء أن الفقيه فقُه ببركة استقبال القبلة، إذ هو السنّة في الجلوس، إلاّ عند الضرورة، وببركة دعاء المسلمين، فإن المصر لا يخلو عن العبّاد وأهل الخير، فالظّاهر أنّ عابدا من العبّاد دعا له في الليل.
فينبغي لطالب العلم ألاّ يتهاون بالآداب والسنّن، فإنّ مَنْ تهاون بالآداب حُرِمَ السنن، ومَنْ تهاون بالسنن حُرِمَ الفرائض، ومن تهاون بالفرائض حُرِمَ الآخرة.
وبعضُهم قالوا هذا حديث عن رسول الله .
وينبغي أن يكثر الصلاة، ويصلي صلاة الخاشعين، فإنّ ذلك عَوْنٌ لهعلى )التحصيل والتعلُّم.(
41
والتملق مذموم إلا في طلب العلم فإنه لا بد من التملق للأستاذوالشركاء وغيرهم للاسفادة منهم.
قيل: العلم عِزٌّ لا ذُلَّ فيه، لا يدرك إلا بِذُلّ لا عِزَّ فيه.
وقال القائل: أرى لك نفسا تشتهي أن تُعِزَّها فلست تنال العِز حتى
تُذِلَّها
فصل: في الورع في حالة التعلم
روى بعضهم حديثا في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يتورع في تعلمه ابتلاه الله تعالى بأحد ثلاثة أشياء: إما أن يميته في شبابه أو يوقعه في الرَّساتِيق أو يبتليه بخدمة السلطان». فكلما كان طالب العلم أورع كان علمه أنفع والتعلم له أيسر وفوائده أكثر.
و من الورع: أن يتحرز عن الشبع وكثرة النوم وكثرة الكلام فيما لا ينفع وأن يتحرز عن أكل طعام السوق إن أمكن لأن طعام السوق أقرب إلى النجاسة والخباثة وأبعد عن ذكر الله تعالى وأقرب الى الغفلة ولأن أبصار الفقراء تقع عليه ولا يقدرون على الشراء فيتأذَّوْن بذلك وتذهب بركته.
وحكي أن الشيخ الإمام الجليل محمد بن الفضل رحمه الله كان في حال تعلمه لا يأكل من طعام السوق وكان أبوه يسكن الرساتيق ويهيء طعامه ويدخل إليه يوم الجمعة فرأى في بيت ابنه خبز السوق يوما فلم يكلمه ساخطا عليه فاعتذر إليه ابنه فقال: ما اشتريته انا ولم أرض به ولكنه
40
وسمعت الشيخ الإمام الأجل الأديب الأستاذ ركن الدين المعروفبالأديب المختار رحمه الله يقول: قال هلال بن يسار رحمه الله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه شيئا من العلم والحكمة فقلت: يا رسول الله أعد لي ما قلت لهم فقال لي: هل معك محبرة؟ فقلت: ما معي )محبرة(. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا هلال لا تفارق المحبرة فإن الخير فيها وفي أهلها إلى يوم القيامة.»
ووصَّى الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله لابنه شمس الدين أن يحفظ كل يوم شيئا يسيرا من العلم والحكمة فإنه يسير وعن قريب يكون كثيرا.
واشترى عصام بن يوسف رحمه الله قلما بدينار ليكتب ما سمعه في الحال. فالعمر قصير والعلم كثير، فينبغي ألا يضيع الأوقات والساعات ويغتنم الليالي والخلوات.
قيل )عن يحيى بن معاذ الرازي(: الليل طويل فلا تُقَصِّرْه بمنامك والنهار مضيء فلا تُكَدِّرْه بآثامك.
وينبغي أن يغتنم الشيخ ويستفيد منهم وليس كل ما فات يدرك )كما( قال أستاذنا شيخ الإسلام رحمه الله في مشيخته: كم من شيخ كبير أدركته وما استخبرته.
وأقول على ذلك الفوت منشئا هذا البيت:
لَهْفَى على قوت التلاقي لَهْفَى ما كل ما فات و يفنى يُلقَى
قال علي رضي الله عنه: إذا كنت في أمر فكن فيه وكفى بالإعراض عن علم الله تعالى حزنا وخسارا واستعذ بالله منه ليلا ونهارا.
ولا بد لطالب العلم من تحمل المشقة والمذلة في طلب العلم.
39
وإياك أن تظنَّ بالمؤْمن سوءًا، فإنه مَنْشأ العداوةِ. ولا يحلُّ ذلك لقولهعليه السلام: “ظُنُّوا بالمؤمنينَ خيرًا”. وإنما ينشأ ذلك من خُبثِ النيَّة ،وسوءِ السَّريرة، )كما( قال أبو الطيِّب رحمه الله:
إذا ساء فِعل المرء ساء ظنونه وصدَّق ما يعتاده من توهُّمِوعادى مُحِبِّيه بقَوْلِ عُدَاتِه وأصبح في ليل من الشك مُظْلِمِوأُنْشِدْتُ لبعضهم:
تَنَحَّ عن القبيح ولا تُ رِدْه ومَن أوليتَه حُسْنًا فزِدْهستُكفَى من عدوك كل كيد إذا كاد العدو فلا تَكِدْه
وأُنْشِدْتُ للشيخ العميد أبي الفتح البُسْتِيّ رحمه الله:
ذو العقل لا يسلم من جاهل يسوقه ظلما وإعناتافليختر السِّلم على حربه وليَلْزَمِ الإنصات إن صاتا
Достарыңызбен бөлісу: |